فـاتت جـنبنا..

هوووه.. أنهيت يوم عمل شاق للتو..
سأعود الآن لأقبِّل وسادتي -الحبيبة، وأعانق بطّانيتي الحبيبة ويحتويني سريري الحبيب..
لم يعد يفصلني عنه منذ أن ودعته صباحاً إلا مواصلة من مقرِّ عملي لبيتي، لأجده معدا في استقبالي يُنشِد: بالأحضان بالأحضان بالأحضان، فأجيبه بـ"عَبْحَلِيمِيَّة" مفرطة: بالأحضان يا سريري يا غالي بالأحضان..
وصلت لموقف الأوتوبيسات، ما شاء الله أوتوبيسات وميني باصات كثيرة قوي وخطوط لجميع مناطق قاهرة المعز.. يا سلام!! وحياتك ما عدا المنطقة التي أسعدني حظي بالإقامة فيها.. يعني يا والدي مش كنت شفت أكتر منطقة بتروحها أوتوبيسات وتاخد شقة في واحدة منها.. وإن كنت أشك أنه ساعتها كنا سنقطع عن سكان هذه المنطقة المواصلات كذلك والحظ عارف صاحبه كما تعلم..
انتظرت وتمهّلت وتريّثت وتأنّيت واستنيت وصبرت وغلى الدم في عروقي من منظر الساعة، الشيء الوحيد اللي بيمشي في الموقَف الـ... ده.. عرفت الآن حقا لماذا يسمونه موقَف إنه موقَف مثالي فعلا موقَف موقَف موقَف..
الناس تيجي وتروح وأنا قاعد عندكم -مع الاعتذار للست ليلى مراد- ولما "بلغ السيل الزبى" و"بلغ الحزام طبييه" و"طفح الكيل" و"اتسع الخرق على المرقّعاتي" لم أجد بدًّا من أن أحرك قدمي قليلا لأقف في الميدان، والفارق الجوهري بين منتظر المواصلة بتاعته في الموقَف ومنتظرها في الميدان هو نفس الفارق بين الشحات اللي واقف على باب الجامع والشحات اللي بيلف في الشارع يجري على المخاليق ويتوسل لكل واحد شوية، فحينما لم أجد أوتوبيسا ينفعني قدام الجامع -قصدي الموقَف- سحبت عصاي وخرجت إلى الميدان وما أدراك ما الميدان، ثم ما أدراك ما الميدان..
ستة تقاطعات يا عزيزي، ومنظر السيارات يجعلك تدوخ وأنت واقف، وصارت تمر عليّ الأوتوبيسات بالفعل فأكتفي برؤية اسم منطقتي يرفرف عليها وهي تطير على الطريق وأنا لم أحضر الأجنحة معي للأسف..
ثم.. ثم.. اختفى الجميع.. وخلا الطريق.. وانتهى الزحام.. وخلا الميدان -وما أدراك ما الميدان- من السيارات والمارة وكل شيء.. كل شيء..

في البداية تخيّلت أنني أُصبت بالعمى المؤقت من حرارة الشمس ودخان السيارات، ولكن ها هو الميدان نعم.. ها هي الستة تقاطعات نعم.. ولكن أين السيارات؟ وهل العمى يمتلك أوبشن يلغي وجود السيارات فقط بينما أرى جميع ما سواها؟.. أم هي عدالة السماء اقتصَّت لي من كل ما يمشي على أربع؟ -أربع عجلات يعني- أم...... ولما حملقت فوجدت الطريق قد امتلأ مرة واحدة بعساكر الشرطة، وكأن الأرض قد انشقت عنهم للتو قلت بالتأكيد أن القانون لم يرضَ ببهدلتي وتأخري عن المرواح فأتى الجنود لينتقموا لوقتي الثمين، فهممت أن أذهب لكبيرهم الذي يحمل على كتفه أطنانا من رسومات كثيرة إشي نجوم وإشي نسور -أكيد دا الراجل الكبير بتاعهم- لأقول له: لم يكن هناك لزوم للكلفة دي كلها شاور لي بس على أي تاكسي يوصلني وحاسبه وألف ألف شكر للحكومة.. ولكن للأسف لم يتسنَّ لي أن أعبِّر له عن شعوري ذاك؛ إذ علا فجأة صوت سارينة، وبدا موتوسيكل يقبل مسرعا واخترق الصمت في ثقة بصوته المحذِّر، ثم مجموعة أخرى من الموتوسيكلات يتلفت ركابها يمنة ويسرة ويشيرون للجنود والرتب.. أم تراهم يشيرون إليَّ أنا بوصفي صاحب كل هذه اللخطبة الأمنية؟! غضبت من نفسي جدا إذ لو كنت ظللت في الموقَف لما كلَّفت الدولة كل هذه التكلفة من أجل رجل واحد، أم تراني سعيدا بكل هذا الهيلمان.. كلا والله لأني كنت سأصل على أي حال دون أن أشغل معي كل هؤلاء الناس.. لا.. عفوا لا أقصد أن أقلل من خدماتهم لي أو أهون من تعبهم لأجلي أو أضيع نياتهم الطيبة تجاهي على أساس أني مرهق من الشغل وكنت عايز أروح وهما حبوا يخدموا وكده يعني..
كنت على وشك أن أرفع يدي لرد تحية الإخوة اللواءات والتعبير عن امتناني لبلدي، وشكري لاهتمام الشرطة بمواطن بسيط مثلي وتيسير مواصلة له ليصل إلى بيته بعد يوم عمل شاق.. لولا أن انعكس في عيني بريق قادم من نفس الجهة التي أتى منها الموتوسيكل -أيوه أبو سارينة- نظرت فوجدت سيارة مرسيدس سوداء تلتها تشكيلة رائعة من السيارات الجيب والمرسيدس السوداء اللامعة بالقوي، قعدت أعد أعد أعد حتى تُهت في العد فلم أكمل، ثم نفس المشاهد السابقة بترتيب معكوس حيث مرت تشكيلة السيارات ثم مجموعة موتوسيكلات تلتفت يمنة ويسرة، ثم الموتوسيكل أبو سارينة، ثم الفضاء والخلاء والهوّ، ثم اختفى العساكر فجأة كما ظهروا فجأة -يبدو أن الأرض استعادت زهورها اليانعة من جديد- ثم عاد المشهد الأول نفسه بغباوته، وعاد الميدان -أبو ستة تقاطعات- إلى طبيعته التي أعرفها عليه، وعاد جو الحركة والنشاط والتفاعل الشعبي والتلاحم الطبقي والتقارب البنيوي والتمازج النخبوي والتفاعص الشحطوي والتخرشم الحرقوي والتلغوص النفتوي.... آه الآن يبدو فعلا أن أشعة الشمس ودخان السيارات قد أصابني بحالة من الهلاوس المروستانية..

مين اللي عدى من شوية ده؟؟!!

ياااه يا مستر_انت بقى كده جيت على الجرح فعلا_المواصلاااااات بس مين يسمع(التفاعص الشحطوى والتخرشم الحلقوى والتلغوص النفتوى)هو ده اللى احنا عاوزين نقوله بالضبط بس لا مؤاخذه يعنى يا مستر ممكن قاموس نستعين بيه للترجمه؟
شكرررررررررررررررااااااااا جزيلا ولحد ما ازمات المواصلات تتحل اكيد حنكون وقتها فى القبور_مصر لسه بخير برضو